فصل: فصل نفيس للفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

أما قوله: {كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} ففيه بحثان:
البحث الأول: الكاف في قوله: {كذلك} يفيد التشبيه بشيء، وفيه وجهان: الأول: التقدير أن يجعل الله الرجس عليهم كجعله ضيق الصدر في قلوبهم.
والثاني: قال الزجاج التقدير: مثل ما قصصنا عليك، يجعل الله الرجس.
البحث الثاني: اختلفوا في تفسير {الرجس} فقال ابن عباس: هو الشيطان يسلطه الله عليهم وقال مجاهد: {الرجس} ما لا خير فيه.
وقال عطاء: {الرجس} العذاب.
وقال الزجاج: {الرجس} اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. اهـ.

.قال القرطبي:

{كذلك يَجْعَلُ الله الرجس} عليهم؛ كجعله ضيق الصدر في أجسادهم.
وأصل الرِّجس في اللغة النتن.
قال ابن زيد: هو العذاب.
وقال ابن عباس: الرِّجس هو الشيطان؛ أي يسلطه عليهم.
وقال مجاهد: الرّجس ما لا خير فيه.
وكذلك الرجس عند أهل اللغة هو النتن.
فمعنى الآية والله أعلم: ويجعل اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة {عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ}. اهـ.

.قال الخازن:

{كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون}
الكاف في كذلك تفيد التشبيه وفيه وجهان:
الأول معناه أن جعله الرجس عليهم كجعله صدورهم ضيقة حرجة والمعنى كما جعلنا صدورهم ضيقة حرجة كذلك يجعل الله الرجس عليهم.
والوجه الثاني: قال الزجاج: أي مثل ما قصصنا عليك كذلك يجعل الله الرجس.
قال ابن عباس: الرجس الشيطان أي فيسلطه الله عليهم، وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه.
وفي رواية عن ابن عباس أن الرجس العذاب، وقال الزجاج: الرجس في الدنيا اللعنة وفي الآخرة العذاب. اهـ.

.قال الألوسي:

{كذلك} إشارة إلى الجعل المذكور بعده على ما مر تحقيقه أو إشارة إلى الجعل السابق أي مثل ذلك الجعل أي جعل الصدر حرجًا على الوجه المذكور {يَجْعَلُ الله الرجس} أي العذاب أو الخذلان.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال: الرجس ما لا خير فيه.
وقال الراغب: الرجس الشيء القذر، وقال الزجاج: هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
وأصله على ما قيل من الارتجاس وهو الاضطراب {عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} أي عليهم.
ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} تذييل للتي قبلها، فلذلك فصلت.
والرجس: الخبث والفساد، ويطلق على الخبث المعنوي والنّفسي.
والمراد هنا خبث النّفس وهو رجس الشّرك، كما قال تعالى: {وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم} [التوبة: 125] أي مرضًا في قلوبهم زائدًا على مرض قلوبهم السّابق، أي أرسخت المرض في قلوبهم، وتقدّم في سورة المائدة (90) {إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان} فالرجس يعمّ سائر الخباثات النّفسيّة، الشّاملة لضيق الصّدر وحرجه، وبهذا العموم كان تذييلًا، فليس خاصّا بضيق الصدر حتّى يكون من وضع المظهر موضع المضمر.
وقوله: {كذلك} نائب عن المفعول المطلق المراد به التّشبيه والمعنى: يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون جَعْلا كهذا الضيق والحرج الشّديد الّذي جعله في صدور الّذين لا يؤمنون.
و{على} في قوله: {على الذين لا يؤمنون} تفيد تمكّن الرجس من الكافرين، فالعُلاوة مجاز في التمكّن، مثل: {أولئك على هدى من ربّهم} [البقرة: 5] والمراد تمكّنه من قلوبهم وظهور آثاره عليهم.
وجيء بالمضارع في {يَجعل} لإفادة التّجدّد في المستقبل، أي هذه سنّة الله في كلّ من ينصرف عن الإيمان، ويُعرض عنه.
و{الّذين لا يؤمنون} مَوصول يومئ إلى علّة الخبر، أي يجعل الله الرجس متمكّنًا منهم لأنَّهم يعرضون عن تلقّيه بإنصاف، فيجعل الله قلوبهم متزائدة بالقساوة.
والموصول يعمّ كلّ من يُعرض عن الإيمان، فيشمل المشركين المخبر عنهم، ويشمل غيرهم من كلّ من يُدعى إلى الإسلام فيُعرض عنه، مثل يهود المدينة والمنافقين وغيرهم.
وبهذا العموم صارت الجملة تذييلًا، وصار الإتيان بالموصول جاريًا على مقتضى الظاهر، وليس هو من الإظهار في مقام الإضمار. اهـ.

.فصل نفيس للفخر:

قال عليه الرحمة:
ولنختم تفسير هذه الآية بما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال تذاكرنا في أمر القدرية عند ابن عمر.
فقال: لعنت القدرية على لسان سبعين نبيًا، منهم نبينا صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان يوم القيامة نادى مناد، وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله، فتقوم القدرية وقد أورد القاضي هذا الحديث في تفسيره.
وقال: هذا الحديث من أقوى ما يدل على أن القدرية هم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله تعالى قضاء وقدرًا وخلقًا، لأن الذين يقولون هذا القول، هم خصماء الله، لأنهم يقولون لله أي ذنب لنا حتى تعاقبنا، وأنت الذي خلقته فينا وأردته منا، وقضيته علينا، ولم تخلقنا إلا له، وما يسرت لنا غيره، فهؤلاء لابد وأن يكونوا خصماء الله بسبب هذه الحجة أما الذين قالوا: إن الله مكن وأزاح العلة، وإنما أتى العبد من قبل نفسه، فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة، فلا يكونون خصماء الله، بل يكونون منقادين لله هذا كلام القاضي وهو عجيب جدًا وذلك لأنه يقال له يبعد منك أنك ما عرفت من مذاهب خصومك أنه ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه، وأن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب، وليس للعبد على الرب اعتراض ولا مناظرة، فكيف يصير الإنسان الذي هذا دينه واعتقاده خصمًا لله تعالى.
أما الذين يكونون خصماء لله فهم المعتزلة وتقريره من وجوه: الأول: أنه يدعي عليه وجوب الثواب والعوض، ويقول: لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولًا عن الربوبية وصرت من جملة السفهاء، فهذا الذي مذهبه واعتقاده ذلك هو الخصم لله تعالى.
والثاني: أن من واظب على الكفر سبعين سنة، ثم إنه في آخر زمن حياته قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب، ثم مات، ثم إن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة والدرجات الزائدة ألف ألف سنة، ثم أراد أن يقطع تلك النعم عنه لحظة واحدة، فذلك العبد يقول: أيها الإله إياك، ثم إياك أن تترك ذلك لحظة واحدة، فإنك إن تركته لحظة واحدة صرت معزولًا عن الإلهية والحاصل: أن إقدام ذلك العبد على ذلك الإيمان لحظة واحدة أوجب على الإله إيصال تلك النعم مدة لا آخر لها، ولا طريق له ألبتة إلى الخلاص عن هذه العهدة، فهذا هو الخصومة.
أما من يقول إنه لا حق لأحد من الملائكة والأنبياء على الله تعالى وكل ما يوصل إليهم من الثواب فهو تفضل وإحسان من الله تعالى، فهذا لا يكون خصمًا.
والوجه الثالث: في تقرير هذه الخصومة ما حكى أن الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن يومًا من الأيام عقد الجبائي مجلس التذكير وحضر عنده عالم من الناس، وذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس، وجلس في بعض الجوانب مختفيًا عن الجبائي، وقال لبعض من حضر هناك من العجائز إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد كان في غاية الدين والزهد، والثاني كان في غاية الكفر والفسق، والثالث كان صبيًا لم يبلغ، فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم.
فقال الجبائي: أما الزاهد، ففي درجات الجنة، وأما الكافر، ففي دركات النار، وأما الصبي، فمن أهل السلامة.
قال قولي له: لو أن الصبي أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد هل يمكن منه.
فقال الجبائي: لا لأن الله يقول له إنما وصل إلى تلك الدرجات العالية بسبب أنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذاك فقال أبو الحسن: قولي له لو أن الصبي حينئذ يقول: يا رب العالمين ليس الذنب لي، لأنك أمتني قبل البلوغ ولو أمهلتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد والدين.
فقال الجبائي: يقول الله له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوحب النار، فقبل أن تصل إلى تلك الحالة راعيت مصلحتك وأمتك حتى تنجو من العقاب، فقال أبو الحسن: قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار، فقال: يا رب العالمين، ويا أحكم الحاكمين، ويا أرحم الراحمين، كما علمت من ذلك الأخ الصغير أنه لو بلغ كفر علمت مني ذلك، فلم راعيت مصلحته وما راعيت مصلحتي؟ قال الراوي: فلما وصل الكلام إلى هذا الموضع انقطع الجبائي.
فلما نظر رأى أبا الحسن، فعلم أن هذه المسألة منه، لا من العجوز، ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار أو أكثر من بعد الجبائي فأراد أن يجيب عن هذا السؤال، فقال: نحن لا نرضى في حق هؤلاء الأخوة الثلاثة بهذا الجواب الذي ذكرتم، بل لنا هاهنا جوابان آخران سوى ما ذكرتم، ثم قال: وهو مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها، وهي أنه هل يجب على الله أن يكلف العبد أم لا؟ فقال البصريون: التكليف محض التفضل والإحسان، وهو غير واجب على الله تعالى.
وقال البغداديون: إنه واجب على الله تعالى.
قال: فإن فرعنا على قول البصريين، فلله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد، وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلًا على أخيك الزاهد بهذا الفضل أن أكون متفضلًا عليك بمثله وأما إن فرعنا على قول البغداديين فالجواب أن يقال: إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف عليه كان إحسانًا في حقه، ولم يلزم منه عود مفسدة إلى الغير فلا جرم فعلته وأما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك كان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك، فلهذا السبب ما فعلت ذلك في حقك فظهر الفرق.
هذا تلخيص كلام أبي الحسين البصري سعيًا منه في تخليص شيخه المتقدم عن سؤال الأشعري، بل سعيًا منه في تخليص إلهه عن سؤال العبد، وأقول قبل الخوض في الجواب عن كلام أبي الحسين صحة هذه المناظرة الدقيقة بين العبد وبين الله، إنما لزمت على قول المعتزلة وأما على قول أصحابنا رحمهم الله فلا مناظرة ألبتة بين العبد وبين الرب، وليس للعبد أن يقول لربه، لم فعلت كذا؟ أو ما فعلت كذا.
فثبت أن خصماء الله هم المعتزلة، لا أهل السنة، وذلك يقوي غرضنا ويحصل مقصودنا، ثم نقول:
أما الجواب الأول: وهو أن إطالة العمر وتوجيه التكليف تفضل، فيجوز أن يخص به بعضًا دون بعض.
فنقول: هذا الكلام مدفوع، لأنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما، فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح من الله تعالى، لأن الإيصال إلى هذا الثاني، ليس فعلًا شاقًا على الله تعالى، ولا يوجب دخول نقصان في ملكه بوجه من الوجوه، وهذا الثاني يحتاج إلى ذلك التفضل ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد ألا ترى أن من منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجدار لعامة الناس قبح ذلك منه، لأنه منع من النفع من غير اندفاع ضرر إليه، ولا وصول نفع إليه فإن كان حكم العقل بالتحسين والتقبيح مقبولًا، فليكن مقبولًا ههنا، وإن لم يكن مقبولًا لم يكن مقبولًا ألبتة في شيء من المواضع، وتبطل كلية مذهبكم فثبت أن هذا الجواب فاسد.
وأما الجواب الثاني: فهو أيضًا فاسد، وذلك لأن قولنا تكليفه يتضمن مفسدة ليس معناه أن هذا التكليف يوجب لذاته حصول تلك المفسدة، وإلا لزم أن تحصل هذه المفسدة أبدًا في حق الكل وأنه باطل، بل معناه: أن الله تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص، فإن إنسانًا آخر يختار من قبل نفسه فعلًا قبيحًا، فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تكليفه، فكذلك قد علم من ذلك الكافر أنه إذا كلفه فإنه يختار الكفر عند ذلك التكليف، فوجب أن يترك تكليفه، وذلك يوجب قبح تكليف من علم الله من حاله أنه يكفر، وإن لم يجب هاهنا لم يجب هنالك، وأما القول بأنه يجب عليه تعالى ترك التكليف إذا علم أن غيره يختار فعلًا قبيحًا عند ذلك التكليف، ولا يجب عليه تركه إذا علم تعالى أن ذلك الشخص يختار القبيح عند ذلك التكليف، فهذا محض التحكم.
فثبت أن الجواب الذي استخرجه أبو الحسين بلطيف فكره، ودقيق نظره بعد أربعة أدوار ضعيف، وظهر أن خصماء الله هم المعتزلة، لا أصحابنا، والله أعلم. اهـ.